واصل العشرات من ملاك أراضي منطقتي «الأمل والقادسية» في مدينة العبور بمحافظة القليوبية احتجاجتهم المستمرة منذ شهور أمام مبنى جهاز المدينة، وسط وجود أمني مكثف، احتجاجًا على استيلاء هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة على ملكياتهم المسجلة بموجب عقود مشهرة في مصلحة الشهر العقاري، ومطالبتهم بإعادة التعاقد مع الهيئة بدفع مبالغ إضافية أو التنازل عن مساحات من تلك الملكيات الخاصة بدعوى أنها ملكًا للدولة.

ومنذ سنوات، يعيش آلاف المواطنين المالكين لقطع أراضٍ ومنازل في منطقتي الأمل والقادسية بمدينة العبور حالة من التوتر والخوف، بعدما تحولت أحلامهم في الاستقرار والبناء إلى كابوس يومي بسبب النزاعات بين الأهالي والدولة، والتي يتهمونها بالتعامل معهم كغرباء على أرضهم، والانحياز لمصالح المستثمرين ورجال الأعمال على حساب البسطاء.

 

حلم تحوّل إلى مأساة

في بداية التسعينيات وبداية الألفية، أقبل مواطنون من مختلف المحافظات على شراء قطع أراضٍ في منطقتي الأمل والقادسية، الواقعتين بجوار مدينة العبور، عبر جمعيات إسكان أو وسطاء عقاريين.

كانوا يحلمون ببيت آمن ومستقبل لأبنائهم بعيداً عن زحام القاهرة وارتفاع أسعار الوحدات السكنية.

لكن ما لبث الحلم أن انقلب إلى مأساة، بعدما فوجئ الملاك بتعقيدات قانونية  وإدارية، وقرارات حكومية تصف وجودهم بأنه "تعديات على أملاك الدولة"، رغم أن بحوزتهم عقود بيع موثقة وأوراق تثبت تعاملاتهم الرسمية مع جمعيات الإسكان.

 

الدولة تعتبرهم "متعدين".. والأهالي يردون: "نملك أوراقاً رسمية"

الصدمة الأكبر جاءت حين بدأت حملات إزالة متكررة خلال السنوات الماضية، بحجة أن تلك الأراضي ملك لهيئة المجتمعات العمرانية، وليست مخصصة للبناء. ومع كل حملة أمنية، يتجدد الرعب بين الأسر، حيث تُهدم جدران بيوت بنيت بعرق السنين.

أحد الأهالي، ويدعى محمود عبد العال، يقول: "دفعت تحويشة عمري في قطعة أرض بالقادسية منذ أكثر من 20 عاماً، وبنيت بيتاً أسكن فيه مع أسرتي. اليوم يقولون إنني متعدٍ، بينما أملك عقداً مختوماً ومشهوراً في الشهر العقاري. إذا كانت هناك مشكلة قانونية، فلماذا تُركنا ندفع ونبني ونعيش هنا طوال هذه السنوات؟".

 

شهادات من قلب الأزمة

تتنوع قصص الأهالي بين الألم والغضب وفقدان الثقة في الدولة.

أم محمد، سيدة خمسينية، وقفت تبكي أمام ركام منزلها الذي تمت إزالته قبل أشهر: "هذا البيت بنيته بعد وفاة زوجي لأعيش فيه مع أولادي. بعت ذهب بناتي وسددت أقساطاً لسنوات، وفجأة جاءوا بالبلدوزرات وهدموا كل شيء. لم يسألنا أحد، ولم يعرضوا حتى تعويضاً. هل نحن بلا قيمة؟".

أما أشرف علي، موظف، فيؤكد أن القضية ليست قانونية بقدر ما هي تجارية: "الموضوع واضح.. 

يريدون إخلاء الأرض لصالح شركات التطوير العقاري التي تخطط لمشروعات ضخمة هنا. نحن عقبة أمام البزنس، ولذلك يستخدمون الدولة كذراع للهدم والطرد".

 

تحيّز لصالح المستثمرين؟

منطقة الأمل والقادسية تحتل موقعاً استراتيجياً قرب الطرق الجديدة، وبجوار توسعات العاصمة الإدارية. ما يجعلها مطمعاً لشركات الاستثمار العقاري الكبرى.

ويرى خبراء أن سياسات الدولة الأخيرة تميل إلى "تصفية" ملكيات الأفراد الصغار لصالح مشروعات كبرى تحقق مليارات، مثل "العاصمة" وامتداداتها.

وهو ما يفسر، بحسب الأهالي، "الحزم الأمني" في التعامل معهم، مقابل التسهيلات التي يحصل عليها كبار المستثمرين.

 

القوانين تُستخدم كسلاح

القوانين المنظمة لأراضي الدولة معقدة ومتغيرة باستمرار، وهو ما تستغله الجهات الرسمية لإضفاء الشرعية على قرارات الإزالة.

ففي حين يؤكد الأهالي امتلاكهم عقود بيع، ترد الدولة بأن العقود غير معترف بها لأنها تمت عبر جمعيات غير  مخوّلة بالبيع، أو أن تخصيص الأرض كان مشروطاً بأغراض معينة لم تُنفذ.

لكن الناشط الحقوقي محمد عادل يصف الأمر بأنه "توظيف انتقائي للقانون": "لو كان هناك خلل قانوني، فمن المسؤول؟ المواطن الذي اشترى بحسن نية أم الجهة التي سمحت بالبيع؟ الدولة تعاقب الضحية بينما تبرئ نفسها، وفي النهاية المستفيد هو المستثمر الكبير".

 

ثمن نفسي واجتماعي باهظ

الأزمة لم تقتصر على فقدان المنازل والأموال، بل امتدت لتدمير حياة أسر بأكملها.

فالكثير من الأطفال حُرموا من مدارسهم بعد تهجير عائلاتهم، والبعض اضطر للعودة إلى القرى والعيش في ظروف صعبة.

تقول منى عبد الرحمن، مدرسة من سكان الأمل: "نعيش في قلق دائم.. لا نعرف متى ستأتي الحملة القادمة. لا نستطيع إصلاح بيوتنا ولا بيعها ولا حتى تأجيرها. حياتنا معلقة، وكأننا غرباء على أرضنا".

 

وعود لم تتحقق

على مدار سنوات، عقدت الحكومة أكثر من جلسة تفاوض مع ممثلين عن الأهالي، ووُعدوا بتسويات قانونية أو إمكانية تقنين أوضاعهم مقابل رسوم.

لكن كل ذلك بقي حبراً على ورق، حيث تصاعدت حملات الإزالة بدلاً من الحلول.

يقول خالد مصطفى، أحد أعضاء لجنة الأهالي: "طالبنا مراراً بالتقنين، وقلنا نحن مستعدون لدفع ما يطلبونه وفق القانون. لكنهم يرفضون الاستماع، وكأن الهدف الحقيقي هو الإخلاء الكامل وليس التسوية".

 

حقوق مهدرة وصمت رسمي

وسط هذا المشهد، يشعر المواطنون بأنهم بلا سند. الإعلام الرسمي نادراً ما  يتناول القضية، بينما تتعامل السلطات معها باعتبارها "ملف أمني".

أما منظمات حقوق الإنسان فتصف ما يحدث بأنه انتهاك صارخ للحق في السكن والملكية الخاصة.

في تقرير لمنظمة حقوقية محلية، وُصف المشهد بأنه "عملية إقصاء اجتماعي ممنهجة"، تهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة العمرانية بما يخدم مصالح المستثمرين والدولة على حساب البسطاء.

 

بين الأمل واليأس

رغم كل ما حدث، ما زال بعض الملاك يتمسكون بأمل إيجاد حل عادل. لكن آخرين فقدوا الثقة تماماً.

يقول سيد حمدي، أحد الشباب: "نشأنا على أن الأرض عرض وشرف، واليوم نُطرد منها بالقوة. لن نسامح من أضاع حقوقنا. نحن نعيش بين الأمل واليأس، لكننا لن نتنازل عن حقنا".

شاهد:

https://draft.blogger.com/u/2/blog/post/edit/preview/5282029797488547884/3910317942114660474